بقلم الدكتور نجيب جهشان
تاريخ ديمغرافية الروم في لبنان
الروم اللبنانيون هم أحفاد سكان الساحل الفينيقي والجبل اللبناني وسهل البقاع الذين إقتبلوا الإيمانَ المسيحيّ، إبتداءً من القرن الأول، على يد التلاميذ الإثني عشر والرسل السبعين الذين طلبَ منهم الربّ يسوع بأن ينتشروا في العالم ويبشروا جميع الأمم ويعمِّدوهم بإسم الآب والإبن والروح القدس. وقد إزدادت أعدادُهم تدريجياً في القرون الأولى للمسيحية، الى أن عمَّت المسيحيةُ البلادَ بأكملِها في القرنين الرابع والخامس بعد وصولِ الإمبراطور القديس قسطنطين الكبير الى الحكم وفرضِ الإمبراطور ثيوذوسيوس الأول المسيحية ديناً للدولةِ في نهاية القرن الرابع.
بعدَ أنْ إعتنقَ جميعُ السكان المسيحيةَ في عهدِ الإمبراطوريةِ الروميّةِ التي بدأت رسميّاً مع قسطنطين الكبير وتكريسِ العاصمةِ الجديدةِ القسطنطينية في 11 إيار 330، أدَّت الخلافاتُ الدينيةُ والهرطقاتُ الناشئةُ الى إنقساماتٍ في الكنيسةِ والشعب. ومن أخطرِ الإنشقاقات التي أضرَّت بوحدةِ الروم في القرن الخامس الإنقسامُ اللاهوتي في مجمع خلقيدونيا الذي أدى الى نشوء الكنائس غير الخلقيدونية (ومنها الكنيسة السريانية التي تكاثرَ أتباعُها في الداخل المشرقي، وكانت أعدادُهم قليلةً في الساحل الفينيقي والسوري). وفي القرن السابع، حدثّ إنشقاقٌ آخرُ بسببِ عقيدة المشيئة الواحدة، أدّى أيضاً الى إنشقاقِ الروم بين مؤيدٍ ومعارضٍ. وقد تجلّى هذا الإنشقاقً بنشوءِ كنيسةٍ محليةٍ في جبال لبنان هي الكنيسة المارونية.
وتقلَّصَ، بعدئذٍ، الوجودُ المسيحيُّ الروميُّ بسببِ الغزوات الإسلامية العربية والتركية التي إقتنصت العديدً من المؤمنين محوِّلةً إياهم الى الدين الإسلامي أو مهجرةً إياهم بإتجاه قبرص والأناضول واليونان. ولم تساعدْ سياسةُ العزل والإضطهادِ التي إتبعتها الدولُ الإسلامية المتلاحقة وصولاً الى الإمبراطورية العثمانية الرومَ في النهوض بأحوالهم الثقافية والإقتصادية وفي التكاثر الديمغرافي بعد القرن السابع.
وجاءَ الإنقسامُ الإكليريكي، في سنة 1724، بسببِ سياسةِ التبشير والإقتناص التي إتبعتها الإرساليات اللاتينية الغربية، ليزيد الطينَ بلَّةً، فإنقسمَ الرومُ الباقون الى طائفتين متناحرتَين، أرثوذكسيةٍ وكاثوليكية، فقدتا حسَّ الإنتماءِ المشترك وضرورةَ العملِ المشتركِ للحفاظِ على الوجودِ والبقاء. ولاحقاً في القرن التاسع عشر، دخلت البروتستانتيةُ الآتيةُ من الغربِ أيضاً ساحة الصراع المذهبي، محاولةً إقتناصَ أكبر عددٍ من الروم في المدن والقرى اللبنانية، فنجحَت في إنشاءِ طائفةٍ جديدةٍ فقدت كلَّ إرتباطٍ لها بالتراثِ والتاريخِ الروميَين. أرخت هذه الحقبات التاريخية المتلاحقة بثقلِها على الديمغرافية الروميّة في لبنان، فتقلصت الأعدادُ وتشتَّتَ الوجود، ولم يبقَ من الروم في لبنان سوى مجموعةٌ محدودةُ العدد والتأثير تنقسمُ الى طائفتَين تتعاونان قليلاً جداً فيما بينهما.
أعداد الروم في لبنان في القرن الواحد والعشرين
لم يجرِ، في لبنان، سوى إحصاءٌ رسميٌّ واحدٌ للسكان في سنة 1932. ومنذ ذلك التاريخ، تصدرُ تقديراتٌ غيرُ رسمية تُضافُ الى لوائح الشطب الإنتخابية لتستعملَ في تعدادِ السكانِ وفي توزَّعِ الطوائف.
في سنة 1932، كانَ المسيحيون يشكلون أكثريةً مطلقةً بين سكان لبنان: 614,397 مسيحي من أصل 1,064,146 لبناني، أي أنَّ نسبةَ المسيحيين كانت 57.7% . وفي الجدول المنشور أدناه من قِبَلِ “الدولية للمعلومات” سنة 2019، (وهو نتيجة بحثٍ خاصٍّ بها)، يبلغُ عددُ اللبنانيين، في نهايةِ سنة 2018، 5,508,692 شخصاً، بينهم 1,686,975 مسيحياً. وبذلك، تقلَّصت نسبتُهم السكانية الى 30.6 بالمئة.
أما الروم الأرثوذكس فقد إنحسرت نسبتُهم من 12.7% في سنة 1932 الى 6% فقط في سنة 2018. والروم الكاثوليك إنخفضوا من 7.3% في سنة 1932 الى نسبة 3.9% في 2018. ويعني أنَّ الرومَ بمجملِهم لم يعودوا يكوِّنون اليوم أكثر من 11.2% من مجموع السكان اللبنانيين، متراجعين من نسبة 20% بالمئة التي كانت لهم في سنة 1932.
إنَّ ألأرقام المنشورةَ تعبّرُ عن الأخطار المحدقةِ بالوجودِ الرومي في لبنان الذي يتراجعُ بسرعةٍ كبيرةٍ لم يعرفْها قبلاً في التاريخ. ينمُّ هذا التراجع النسبي عن تزايدٍ قويٍّ في أعدادِ المسلمين بلغَ 785% في فترةِ 86 سنة في حين أن زيادةَ الروم لم تصلْ سوى الى 163%. لكنَّ تباطؤَ نموّ المسيحيين، والروم بالتحديد، فيعودُ للأسباب التالية:
السبب الأول: من المعروف ديمغرافياً أن الرومَ هم، منذ القرون المسيحية الأولى، سكانُ المدن الفينيقية الساحلية والمدن البقاعية وما يحيطُ بها من قرى تعيشُ في كنفِها، في حين أنَّ الموارنة والدروز والشيعة هم سكان الريف والجبال. ويتميَّزُ سكانُ المدن، خاصةً منذ بدء النهضة الثقافية في القرن التاسع عشر، بإنخفاضِ نسَبِ الولادات والإنجابِ والخصوبة. لذلك، تدنَّت الزيادات السكانيةُ عند الروم في لبنان بين 1932 و2018.
السبب الثاني: شكلت الهجرةُ ظاهرةً شائعةً في لبنان والمشرق منذ القرن التاسع عشر. وهي تتكررُ وتقوى كلما تفاقمت المشاكل الإقتصادية والأمنية. ولقد تكاثرت هجرةُ الروم من لبنان أثناءَ الحرب الأهلية بين 1975 و1990 إذ شكَّلَ الرومُ الأرثوذكس لوحدِهم نسبةَ 25,4% من مجموع المهاجرين والرومُ الكاثوليك 19% من مجموع المهاجرين. ثمَّ عادت الهجرةُ لاحقاً بعد 1994 بسببِ الضائقة الإقتصادية وعدم الإستقرار السياسي الذي لم يزلْ قائماً حتى يومنا هذا. وفي هذه الفترةِ الثانية، شكلَ الرومُ الأرثوذكس نسبةَ 14,3% والروم الكاثوليك نسبة 3,8% من مجموع المهاجرين.
السبب الثالث: من الواضح غيابُ حسّ الإنتماء الجماعي لدى الروم وتسلُّط النزعة الفردية بسببِ غيابِ القيادات الزمنية والروحية التي تضمُّ الأفرادَ الى جماعةٍ واحدةٍ متراصةٍ، قياساً بما يحصلُ في جميع الطوائف اللبنانية الأخرى. أضفْ الى ذلك التهميشَ الذي يصيبُ طائفةَ الروم في الدولة اللبنانية بسببِ تقاسمِ الحصص بين الطوائف الكبرى وإبعاد الروم، تقليدياً ومنذ الإستقلال في سنة 1943، عن مراكزِ القرار، مسبِّباً لدى الشباب إحباطاً عاماً وضعفاً في الروح الوطنية وإستسهالاً للهجرة والرحيل. ويؤدي الأمر، عند بعض فئاتِ الروم، للإعتقادِ بأنَّ النظامَ الطائفي القائم في لبنان هو في أساسِ تهميشهم وضعفهم، فيذهبون في مغالاتهم الى حدِّ رفضِ الإنتماء الى طائفتهم، وهي في الحقيقة بريئةٌ من الأسواء اللاحقة بهم.
توزّع الروم في سائر المناطق اللبنانية
يتواجدُ الرومُ في معظم الأقضية والمناطق اللبنانية دونَ أن تكونَ لهم أكثريةٌ ظاهرة في أيِّ منطقةٍ بإسثناء منطقة الكورة. يعودُ هذا الحضورُ الروميُّ الشاملُ في سائر المناطق الى المراحل التاريخية الرومانية والروميّة القديمة حينما كانَ الشعبُ برمَّتِه يحملُ هويَّةَ الدولة وينتمي للكنيسة المرتبطةِ بالمدينة المتملّكة العاصمة القسطنطينية. لذلك، لما حصلت لاحقاً الإنشقاقاتُ المذهبية والغزواتُ العسكرية، تأثَّرَ الحضورُ الرومي في سائر المناطق بشكلٍ متساوٍ تقريباً، فغادرَ من غادرَ من السكان، وأسلمَ من أسلمَ منهم. وإضطرَ كثيرون من الروم المضطهدين لمغادرةِ المدِن الى القرى الريفية المحيطةِ بها، وإستمروا قائمين فيها لقرونٍ الى أن سمحَ النظامُ المليُّ العثماني، إبتداءً من القرن السادس عشر، للمسيحيين بالعودةِ الى المدن وبناء الكنائس وتجديدها وإنشاء المؤسسات الطائفية. يظهرُ هذا الجدول تعدادَ الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك في جميع الأقضية اللبنانية، كما وردت في قوائم الشطب الإنتخابية سنة 2018. ويشملُ هذا التعدادُ جميع البالغين من ذكورِ وإناثٍ الذين تزيدُ أعمارُهم عن 21 عاماُ. ومن الصعب طبعاً ذكرُ أعداد الأطفال واليافعين الذين لم يبلغوا بعد هذه السنّ.
القضاء | روم أرثوذكس | روم كاثوليك | المجموع |
جبيل | 3,708 | 1,541 | 5,249 |
كسروان | 3,547 | 4,763 | 8,310 |
المتن الشمالي | 26,258 | 17,831 | 44,089 |
المتن الجنوبي | 12,704 | 8,753 | 21,457 |
عاليه | 14,615 | 4,725 | 19,340 |
الشوف | 3,179 | 12,666 | 15,845 |
بيروت | 39,664 | 19,750 | 59,414 |
عكار | 37,541 | 3,414 | 44,369 |
المنية | 8,171 | 176 | 8,347 |
طرابلس | 12,075 | 1,477 | 13,552 |
زغرتا | 4,378 | 868 | 5,246 |
الكورة | 35,335 | 713 | 36,048 |
بشرّي | 1,380 | 554 | 1,934 |
البترون | 10,070 | 1,994 | 12,064 |
بعلبك | 2,695 | 15,386 | 18,081 |
الهرمل | 14 | 19 | 33 |
زحله | 16,768 | 30,043 | 46,811 |
البقاع الغربي | 2,709 | 9,024 | 11,733 |
راشيا | 7,170 | 635 | 7,805 |
صيدا | 303 | 1,578 | 1,881 |
الزهراني | 767 | 11,963 | 12,730 |
جزين | 1,487 | 8,597 | 10,084 |
صور | 807 | 6,260 | 7,067 |
النبطيه | 239 | 1,074 | 1,313 |
مرجعيون | 6,138 | 2,908 | 9,046 |
حاصبيا | 3,698 | 1,040 | 4,738 |
بنت جبيل | 314 | 3,128 | 3,442 |
ويستثنى من هذا الإنتشار الواسع والمتساوي للروم في لبنان الأقضية والقرى الواقعة في الجبال العليا (مثلاً: بشرّي) والتي كانت ربما غيرَ مسكونةٍ في العصر الرومي أو أن سكانَها كانوا على علاقةٍ ضعيفةٍ بالدولة الرومية. لذلك، أصبحت تلك المناطقُ والقرى سكنى للموارنة الذي إنفصلوا في القرن السابع ولجؤوا الى أماكن آمنة تسمحُ لهم بالإحتفاظِ بفرادتهم والعيشَ بأمان.
ويلاحظُ أيضاً غيابُ الروم في مناطق السهول المفتوحة (مثلاً: الهرمل، النبطيه، بنت جبيل) حيثُ كانت تصعبُ في الماضي الحمايةُ الذاتية وحيثُ هُجِّرَ السكانُ في فترات الفتوحات الإسلامية أو إضطروا لإعتناقِ الإسلام بحثاً عن الحماية من الإضطهادِ والذلّ.