باشرَت الجمعيةُ الثقافية الروميّة، في سنة 2019، بعقدِ مؤتمرٍ علميٍّ سنويٍّ يترافقُ مع الذكرى السنوية لإستباحة مدينة القسطنطينية، عاصمة الروم والمدينة المتملِّكة.
عُقدَ المؤتمرُ الأول في 1 حزيران 2019، في قاعة بيروت، التابعة لبلديةِ بيروت، وبرعاية سعادة محافظ المدينة القاضي زياد شبيب. حملَ المؤتمر عنوان “النهضة التربوية عند الروم في لبنان في القرن التاسع عشر”، وترأسَه البروفسور منير أبو عسلي، الأكاديمي والخبير التربوي اللبناني البارز.
أهداف المؤتمر
بعد قرونٍ عديدةٍ من العزلة والتهميش والإنحطاط، كانت أحوالُ الروم الثقافية في لبنان والمشرق مزريةً في القرن التاسع عشر، وكانَت التربيةُ المدرسيةُ شبهَ غائبةٍ عن أوساطِهم. سعَت إرسالياتٌ غربيةٌ متعدِّدُةُ المذاهب والمشارب والقوميات الدخولَ عليهم لإستمالتِهم وإقتناصِهم والتوسُّعَ الديمغرافيّ على حسابِهم. فدفعَ هذا الواقعُ الإجتماعيُّ، كما العطشُ الى العلم والرغبةُ في النهضةِ، الى نشوءِ دعوات تربويةٍ في الأوساط الروميّةِ اللبنانية والمشرقية، تجلَّت في تأسيس مدارسَ متواضعةٍ نمَت تدريجيّاً في المدنِ والقرى اللبنانية، وحاولَت ملءَ الفراغ التربويِّ والثقافيَّ.
وفي نهايةِ القرن، شعرَ أعيانُ الدولةِ الروسيّة، إنطلاقاً من إهتمامِهم بالأماكن المقدَّسةِ المسيحية في فلسطين وبرغبتِهم بحماية الحجيجِ الروسيِّ الآتي الى هذه الأماكن، بإفتقارِ الروم في المشرقِ الى المؤسسات التربوية الفاعلة، فتنادَوا لتأسيسِ الجمعيةِ الروسية الفلسطينية الإمبراطورية التي كانَ، من بين اهدافِها، تربيةُ الأطفال وتعليمُهم. ساهمت هذه الجمعية، في لبنان، كما في فلسطين وسورية، في تأسيس مدارس دُعيت بالمسكوبية، وساهمَت في النهضة التربوية التي عرفَها الرومُ في لبنان، في ذلك العصر.
هدَفَ المؤتمرُ لدراسة هذه النهضة التربوية من كافةِ جوانبِها الإجتماعية والدينية والثقافية والإقتصادية، مع تحليلٍ لأدوار الأطراف التي ساهمت فيها.
أعمال المؤتمر
تشكَّلَ المؤتمر من جلستَين:
· جلسة أولى عن مدارس الروم الوطنيّة، أدارتها البروفسورة جوليات الراسي، وتكلّمَ فيها الأب الدكتور متري جرداق، والدكتور عماد مراد والأب جوزف جان رفّول، وعقَّبَ عليهم البروفسور سيمون عبد المسيح.
· جلسة ثانية عن المدارس المسكوبية، أدارها البروفسور مسعود ضاهر، وتكلَّمَ فيها الدكتور طارق شومان والدكتور إسكندر الكفوري، والبروفسورة جوليات الراسي، وعقَّبت عليهم البروفسورة سعاد أبو الروس سليم.
أشرفَ على عملِ المجموعة البروفسور منير أبو عسلي، وقدَّمَ في نهاية المؤتمر خلاصةً عامةً إستنتجَ فيها ما حقَّقهَ اللقاءُ من إنجازاتٍ وما تطمحُ إليه الجمعية الثقافية الرومية من تطلّعاتٍ مستقبليةٍ في هذا المجال.
حضرَ المؤتمرَ عددٌ كبيرٌ من التربويين وعلماء التربية والتاريخ وجمهرةٌ من أبناء الطائفة الرومية في لبنان. ومن أبرزِ المشاركين في اللقاء، سعادة سفير دولة روسيا الإتحادية السيد ألكسندر زاسبكين وبعض الكهنة وأعضاء الجمعية.
وبين الجلستَين، قدَّمت فرقة ليبوفا المؤلفة من سيداتٍ روسياتٍ قاطناتٍ في لبنان مجموعةً من الأغاني الروسية الفولكلورية، وأرتدت السيداتُ الزيَّ الروسيَّ التقليدي.
خلاصة المؤتمر، بقلم البروفسور منير أبو عسلي
أيها الحفل الكريم،
في نهاية هذا اللقاء، أتوجّه بالشكر للزميلات والزملاء على الجهود التي بذلوها في مقارباتهم للنهضة التربوية عند الروم في القرن التاسع عشر.
فقد بَيّنت مداخلاتهم وما تلاها من نقاشِ مثمر، أن تلك المرحلة تميّزت برفع مستوى الروم بشكل خاص، والمجتمع اللبناني بشكل عام، كما بيّنت أن إنطلاقة مدارس الروم الوطنية، ولو محدودةً بإمكانياتها ومناهجها وأساتذتها وإنتشارها الجغرافي، شكّلت حافزاً كبيراً لتأسيس وإنتشار المدارس المسكوبية التي تمكّنت من التنافس البنّاء مع سيل المدارس التي أنشأتها الإرساليات الكاثوليكية والبروستانتينية، ما انعكس خيراً في الحقول التنموية كافة، التربوية منها ، والإجتماعية، والوطنية ، والثقافية، والإقتصادية.
فعلى الصعيد التربوي، برزت النهضة بشكل لافتٍ من خلال المناهج المتقدمة التي إعتمدتها المدارس المسكوبية، والتي هدفت إلى ربط المدرسة مع بيئتها ومجتمعها، وتنميةِ شخصية المتعلم وتدريسِه اللغات والتاريخ والرياضيات والعلوم واللاهوت. ولم يغبْ عن بال القيّمين على هذه المناهج إنشاءُ الروضات، وتفعيلُ النشاطات اللاصفيّة، وإعدادُ معلمين مهنيين. كما كانت تلك المدارس تخضع لنظام المحاسبة من قبل مفتّشين ماهرين. ما يعني أن المدارس المسكوبية استطاعت أن تبني نظاما تربويا متكاملا.
وعلى الصعيدِ الإجتماعي، ففد تميّزت المدارس الوطنية بالإهتمام باليتيمات والأيتام وأبناءِ الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء (المعاسير منهم والمياسير)، وهكذا تكونُ قد أسهمت في تطوير المجتمعَين الأرثوذكسي والملكي الكاثوليكي بشكلٍ خاص، والمجتمع بشكل عام. أمّا المدارس المسكوبية فقد اعتمدت إستراتيجيةً تحقّق ديموقراطية التعليم، عبر إنشاء المدارس في انحاء البلاد كافة، وفتحِ أبوابها أمام الجميع من دون أية تفرقة إجتماعية أوطائفية، ومن دون أقساطٍ مدرسية وبدلِ قرطاسية، وكذلك عبر تأمين الصحة المدرسية، وفي خطوةٍ متقدمة، بإعتمادِ إختلاط الجنسين تحت قبة التربية والتعليم. وكان من اللافت أن خريجات تلك المدارس كن متميّزات بمستواهن العلمي والأخلاقي.
وعلى الصعيد الوطني، فقد بثّت النهضةُ التربوية روحَ التحرّرمن النَير العثماني، وعزّزت الإنتماء الوطني، خصوصاً بتشديدِها على تعليم اللغة العربية. وتجدرُ الإشارة إلى أن تلك النهضة لم تعملْ على تغذية العصب الطائفي واثارة الفتن ولم تجبرْ احداٍ على تغيير طائفته ومعتقداته. فالمدارس الوطنية، التي لم يقتصرْ تلاميذُها على الروم فقط، هدفت إلى الحفاظ على هويَّتها ومعتقدات أبنائها وخصوصّيتها المشرقّية العربّية المسيحّية، حيث تحققَ الإنصهارُ الوطنيُ المبنيُ على احترامِ الاختلافِ والاغتناءِ من الآخرِ ورفعِ لواءِ المواطنةِ الحقِ ومحاربةِ الجهلِ. وكذلك أيضا المدارس المسكوبية التي، بانتشارها في المناطق كافة، قد ضمَّت في صفوفها، إلى جانب التلامذة الروم، تلامذةً من مختلف الطوائف والمذاهب من دون أي تمييز أو تفرقة. وإحتراماً منها للخصوصية الوطنية، كانت المدارس المسكوبية تطلب من تلاميذِها الحفاظ على اللباس الوطني المحلي.
وعلى الصعيد الثقافي، فقد شهدت تلك الحقبة نهضةً ثقافية تمثَّلت في تكوين النُخب النهضوية والفكرية في المنطقة، وأغلبُهم من متخرجي تلك المدارس، وما قدّموه في مجال الأدب والترجمة والصحافة والتعليم فضلاً عن دراسات متعدِّدة تناولت تاريخ الشرق المسيحي على كل الأصعدة. ولمعَ عددٌ كبيرٌ منهم في مجالاتِ السياسةِ والطبِ والقانونِ، كما أسّس فريق منهم الرابطة القلمية في المهجر الشمالي.
أمّا في ما يتعلَّقُ بالبعد الإقتصادي، فإن النهضة التربوية قد ساعدت على زيادة عددِ المتعلّمين ما أسهمَ في تحسين الأوضاع الإقتصادية عبر فتح مجالاتٍ لمهنٍ حديثة، وبخاصة بعد إعداد الخريجين وتأهيلهم للتدريس، وإيفادِ بعض المتفوقين منهم إلى روسيا للتخصص في المجالات كافة، كما لمعَ بعضُ الخريجين في ميادين التجارةِ والإداراتِ العامَّةِ.
ماهي الدروس التي يمكننا أن نستيقها من تلك الحقبة؟
الدرس الأول هو أن التربية والتعليم هما مفتاح نهضة الشعوب وتطورها وبناء الأوطان وازدهارها.
الدرس الثاني هو أن التنافس البنّاء الذي يحصل بين المدارس، يسهم بشكل كبير في النهضة والبناء والتطور والإزدهار، وأن ديموقراطية التعليم هي المدخل الرئيس لذلك.
الدرس الثالث هو أن المدارس العابرة للطوائف هي البيئة الصالحة لبناء مواطنة صلبة، وأن اللغة الأم عامل رئيس في تعزيز الإنتماء الوطني.