بعد توقّفٍ دام أكثر من سنتَين بين 2019 و2022، إستأنفت اللجنة الإجتماعية في الجمعية الثقافية الروميّة برنامجَ رحلاتِها الثقافية والترفيهية، ونظَّمت، في 12 تشرين الثاني 2022، رحلةً الى الساحل اللبناني في شمالِ بيروت، قاصدةً مدينة جونيه ومدينةَ جبيل وبعضَ المواقع الطبيعية والأثرية الواقعة بينهما. بدأت الرحلةُ، كالعادة، عند الساعة السابعة صباحاً، وإنطلق البولمان الفخمُ والمكيّف من شارع الأم مريم جهشان بالقرب من مدرسة زهرة الإحسان قاصداً في البدءِ بلدة صربا حيث مقام القديس جاورجيوس الباطيه.
في المرحلة الأولى من الرحلة، زار الوفدُ المشاركُ المؤلفُ من حوالي أربعين شخصاً مزارَ القديس جاورجيوس الباطيه الذي يقعُ بجانب شاطئ البحر وتحت شير الباطيه. ويعتقدُ بأن إسمَ الباطيه هو تحريفٌ محليّ لكل معمودية باليونانية، لأنَّ في أسفلِ الشير البحري توجدُ مغارةٌ طبيعية تُدعى الباطية، وفي وسطِها بركةَ ماء مملوءة بمياه البحر. يقصدُ السكانُ المحليون الموقعَ ويقدّمون النذور للقديس جرجس “الخضر” لشفاء الأطفال من الأمراض المستعصية والنساءِ من مشاكل العقم. وبقيت الى اليوم عاداتُ التبرك بالمياهِ الشافية مستمرةً، فعلى الراغبين بالشفاء الغطسُ في ماء المغارة ثلاث مرات، ومن ثم رمي «خِرقة» من ثيابهم في البحر. زار الوفدُ هذا الموقعَ الذي أهّلته البلدية وفيه كنيسةٌ صغيرةٌ وتمثالٌ للقديس جاورجيوس وبركةٌ كبيرة.
توجّه الزوارُ بعدئذٍ الى دير المخلص الذي يقعُ فوق شير الباطية والذي يرتبطُ به بنفقٍ قديمٍ تحت الأرض يعودُ لعصورٍ قديمة. تجوّل الوفدُ في ساحات الدير الواسعة وزاروا كنيسة الدير التي يعودُ بناؤها لسنة 1884 وشاركوا في القداس الإلهي الذي كان يقامُ فيها في ذلك الصباح. وبعد القداس، توجَّهوا الى قاعة الإستقبال في الدير وتجوّلوا في متحفه. وقد إستضافَهم رئيسُ الدير قدس الأب إيليا (بطيخه) شارحاً لهم تاريخَ الدير ومحتوياته. هو مركز الرهبنة الحلبية المخلّصية (روم كاثوليك) التي إنشقَّت عن الرهبنة الشويرية في مطلع القرن التاسع عشر والتي إتَّخذت هذا الدير مركزاً رئيسياً لها. أما الدير فمبنيٌّ على أطلال قلعةٍ مملوكية بُنيت هي الأخرى في مكانِ معبدٍ روماني قديم للإله سيرابيس.

وفي حوالي الساعة التاسعة، أنتقلَ الوفدُ الى مطعم شمسين على أوتستراد حالات لتناولِ الفطور ثمَّ توجّهَ الى جسر نهر إبراهيم الأثري حيث إلتُقطت صورٌ تذكارية ثمَّ الى برج الفيدار الذي يقعُ على بعد كيلومتراتٍ قليلة من مدينة جبيل بيبلوس. بُنيَ جسرُ نهر إبراهيم في القرن السابع قبل الإحتلال العربي لفينيقيا، وصمدَ أمامَ العوامل الطبيعية والزلازل وأعيدَ ترميمُه في العصر العثماني. يعبرُ الجسرُ فوق نهر إبراهيم الذي يحملُ إسمَ سابعِ أمراء المردة إبراهيم أو الراهب الناسك إبراهيم القورشي، من أتباع مار مارون والذي عاش في أعالي بلاد جبيل عند منبع النهر في أفقا. ويرمزُ النهرُ أيضاً الى الإله أدونيس الذي قتله إلهُ الحرب أريس متّخذاً شكل خنزير ويدعى باللاتينية مارس، فسالت دماءُ أدونيس عند مصب النهر فدُعيَ إسمه نهر أدونيس.
توقفَ الزوارُ بعدئذٍ عند برج الفيدار أو برج محيش الذي هو أحد الأبراج السبعة التي بناها الصليبيون على طول الساحل الفينيقي، ومهمتُه كانت حمايةَ الشاطئ من الأعداء الوافدين من البحر. البرجُ مبنيٌّ من طبقتَين، وفيه فتوحاتٌ عسكريةٌ ضيقة. وتبرهنُ المنحوتات المرسومة عليه أنّ بانيَه هو الشخصُ نفسُه الذي بنى كاتدرائية القديس يوحنا مرقس الصليبية في بيبلوس.
وفي المرحلة التالية من الرحلة، جالَ الوفدُ في مدينة جبيل. وكانت كنائسُ جبيل القديمة الأثرية الغايةَ الأولى في الجولة. إنطلقَ الزوارُ من مرفأ جبيل صعوداً الى كنيسة سيدة النجاة وهي الكنيسة الرومية الأرثوذكسية الوحيدة في بيبلوس، وتعودُ تاريخياً الى العصر الرومي (ما بين القرنين الرابع والسادس). الكنيسةُ الحالية هي بناءٌ صليبي من القرن الثاني عشر، جرى ترميمُه حديثاً وأضيفَت إليه أيقونات روميةٌ. ومن داخل الكنيسة، نزلَ الزوارُ الى آثارِ الكنيسة القديمة، وفيها المذبح الأقدم في المدينة. وفي حديقة الكنيسة، بقايا حجارةٍ من العصر الرومي. وزار الوفدُ بعدئذٍ كاتدرائية القديس يوحنا مرقس مؤسس كرسي بيبلوس الأسقفي في القرن الأول، وهي اليوم بعهدةِ الكنيسة المارونية بعد أن سلَّمها إياها، في سنة 1763، الأميرُ يوسف الشهابي الذي إحتلَّ المدينة في العصر العثماني. البناءُ صليبيّ شُيِّدَ على أنقاض الكنيسة الرومية القديمة التي هدَّمها زلزالُ سنة 555 الكبير. والى الجانب الشرقي الشمالي لكنيسة القديس يوحنا مرقس، تتواجدُ فسيفساء الكاتدرائية الرومية القديمة. تقعُ هذه الكنائس بالقرب من مرفأ المدينة حيث يرتفع برجان صليبيان مهمَّتُهما حماية المرفأ. وللمرفأ رصيفٌ عالٍ يدخلُ البحر، ومنه يمكن مشاهدة حوالي 500 متر من سور المدينة القديم الذي بناه الصليبيون.
إنتقلَ الوفد، بعد زيارةِ الكنائس، الى أسواق بيبلوس القديمة، وتجوَّلَ مطوّلاً فيها، قاصداً متحفَ الشمع، ومصنعَ بربر للصابون، ومتحفَ المتحجرات الصخرية (Mémoire du Temps). وأمضى الزوار لحظاتٍ رائعة في تجوالِهم داخل متحف الشمع حيث تماثيلُ الشخصيات السياسية والفنية الشهيرة. وفي مصنع الصابون، تعرّفوا على التقنيات القديمة لصنع كافة أنواع الشمع بعطوره وألوانه المختلفة. أما متحفُ المتحجرات الصخرية الذي يملكه الإخوة أبي سعد فيذخرُ بمئاتِ الأسماك المتحجرة منذ ملايين السنين والتي تستخرجُ من جبال منطقة جبيل، وخاصة في بلدة حائل. وقد تيقّن المستكشفون بأن متحجرات لبنان تشملُ 450 نوعاً من الأسماك.

إنتهت الجولةُ في جبيل بزيارة متحف آرام بزيكيان الأرمني المسمّى عشّ العصافير، وهو متحفٌ أنشئ في بيتٍ قديمٍ أوى مئات الأطفال الأرمن اليتامى الذين لجؤوا الى لبنان بعد سنة 1915، تاريخ المجازر التي إرتكبتها الدولةُ التركية. إهتمّت ماريا جاكوبسِن، وهي دانماركية، بهذا الميتم الذي أقيم في مدينة جبيل، وقد خلِّدت بنصبٍ مقامٍ لها في جوار المتحف. يضمُّ الأخير صوراً ووثائقَ كثيرة تروي تاريخَ تلك الإبادة ومصيرَ الأولاد الذين نجوا من المجازر. ولقد شعر الوفدُ الزائرُ بألمٍ وأسىً كبيرَين عند مشاهدتِه صور تلك المآسي مستمعاً الى شروحات القيّمين على المتحف.
إنتهت الرحلةُ في مطعم السنيور، في منطقة المعاملتين، حيث تناول المشاركون في الرحلة طعام الغداء. ولهذا المطعم إطلالةٌ جميلةٌ على خليج جونيه توِّجَت بمنظرٍ خلابٍ لغروبِ الشمس في حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر.