في العاشر من حزيران 2023، قصدت اللجنة الإجتماعية برفقة خمسين شخصاً منطقة الكورة في شمال لبنان. تتميّزُ الكورة ببساتين الزيتون المترامية الأطراف وبمدنٍ وقرى عريقةً في القدم، غنيةً بالآثار والمواقع التراثية. بدأت الرحلة صباح يوم السبتا لواقع فيه العاشر من حزيران ، مغادرةً منطقة الأشرفية ببيروت، مستقلةً بولمان حديثاً مكيّفاً. أشرفت على تنظيم الرحلة اللجنة الإجتماعية برئاسة السيد نقولا مقبل يعاونه الدكتور إيلي موقديه والسيد سعيد خيرالله. توقفَ الباص لبرهةٍ من الزمن في أفران Bread House عند جسر المدفون لتناول الفطور الصباحي، ثمَّ إنطلق سريعاً قاصداً مدينة أميون، عاصمة الكورة.
يقع قضاءُ الكورة بين أقضية البترون جنوباً وطرابلس القلمون غرباً وشمالاً وزغرتا شمالاً وبشري شرقاً. وهو يطل على الساحل وله على البحر البيض المتوسط المدعو قديماً بحر الروم إطلالةٌ مميزة تتكون خاصةً من بلدة أنفه والهضاب المرتفعة فوقها. يحدُّ القضاء شمالاً نهر قاديشا المدعو نهر أبو علي في طرابلس وجنوباً نهر الجوز الذي يقع بجنبه دير السيدة في كفتون ودير القديسين سرجيوس وباخوس. وكانت لجمعيتنا سابقاً رحلة الى كفتون. كما أن مؤتمرَنا العلمي الأخير تضمن بحثاً شيقاً عن جدرانيات دير القديسين سرجيوس وباخوس الذي يعود الى القرن السادس. قصدَ وفدُ الجمعية الثقافية الروميّة أولاً مدينة أميون، عاصمة قضاء الكورة. رافقَ الوفدَ في الزيارة السيد نقولا عجيمي وهو خبيرٌ له إلمامٌ خاص بمدينة أميون، بلدته الأم. أميون هي المدينة الرئيسية في منطقة الكورة. يُعتقد بأن هذه البلدة مذكورةٌ في رسائل تل العمارنة القديمة التي تعود الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد باسم أميا وتعني “الحصن المنيع” حسب أنيس فريحه، وتوجد فيه آثار فينيقية، مما يثبت توغل هذه المدينة في القدم. معظم سكانها من الروم الأرثوذكس، وهي مركز أسقفية الكورة التابعة لمطرانية طرابلس. تضمُّ البلدة عشرة كنائس، منها كاتدرائية القديس جاورجيوس، ودير القديس جاورجيوس الكفر. تجوّل الوفدُ في وسط المدينة وبالتحديد عند شير أميون وفي شوارعها الأثرية القديمة، وزار بعض الكنائس الأثرية الشهيرة.
بدأت الزيارة عند شير أميون الصخري الذي يقع في وسط المدينة والذي يضمُ 28 تجويفاً يعتقد بأنها من صنع الإنسان القديم وتعود الى ما بين 15 ألف و 24 الف سنة، ولربما إستعملها لاحقاً النساك المسيحيون. وداخل الشير توجد غرفٌ متصلة ببعضها البعض. وأشار البحاثة الأرخيولوجيون الى وجود رسوم بدائية بعضها ملوّن داخل غرف الشير. وفوق الشير بنيت كنيسة القديس يوحنا المعمدان، ويُعتقد بأنها تعود الى العصر المملوكي وتعلوها قبة مثمنة الأضلاع. وفي الكنيسة عددٌ كبير من الأيقونات من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين.
إنتقل الوفدُ بعدئذٍ الى كاتدرائية القديس جاورجيوس الدهليز القائمة في وسط البلدة فوق آثار معبد وثني قديم. أعيد بناؤها في القرن الخامس عشر. يوجد فيها دهليز يُعتقد بأنه يقودُ ال غرف الشير الصخري. تتألف الكاتدرائية من ثلاثة كنائس هي: الأولى في الوسط على اسم القديس جاورجيوس، الثانية الشمالية على اسم رئيس الملائكة ميخائيل، والثالثة الجنوبية على اسم النبي إيليا الغيور، وهي ذات مخطـّط بازيليكيّ، مع حنيّة رئيسيّة دائريّة بارزة نحو الخارج. يعلو صحن الكنيسة الرئيسيّ عقد سريريّ في حين أنّ الأقسام الجانبيّة أقلّ ارتفاعًا وتعلوها عقود متصالبة. كما في سائر أقسام الكنيسة، فإنّ الحنيّة قد بنيت بحجارة من مخلـّفات صرح قديم، قد يكون معبدًا من العصر الرومانيّ، إذ نجد فيها حجارة ضخمة استعملت بشكل خاصّ كركائز داخليّة للجدران، لا سيما في الجهة الجنوبيّة. ويوجدُ داخل صحن الكنيسة عرشٌ أسقفيّ ضخم حجريّ يتـّكئ على العمود الجنوبيّ لفسحة الصحن الأولى. الأيقونسطاس مبنيّ ويحجب الهيكل على مدى عرض الكنيسة.
وزار الوفدُ أيضاً كنيسة القديس فوقا التي تعود الى القرن السابع، مؤلفة من ثلاثة أروقة وتحوي جدرانيات تمثل المسيح ووالدة الإله والعديد من القديسين بينهم القديس فوقا والقديس سمعان والرسل. تضمُّ الكنيسة مدفن القائد الرومي العسكري موريقيوس الذي إستشهد في معركة سنة 695 بين الروم وأتباع المشيئة الواحدة. كانت جِداريات الكنيسة مُشَوَّهَة بسبب الإهمال والتَّصِدُّع، لَكِن بعد عملية الترميم تَجَلَّت الصُّوَر التي تُزَيِّن الجُدران حيث نَجِد في قبّة الحَنيَّة مَشهداً للقيامة التي تُصوّر السيّد المسيح مع صليبه، يَمُد يده لآدم وحواء، وهما يَستفيقان من قَبرِهما.
وبعد زيارة الكنائس ، تجوّل الوفدُ في حيّ مار سمعان الذي هو من أقدم الأحياء التراثية في أميون، وفيه الكثير من الآثار المعمارية الصليبية. وعلى جدران احد المنازل قرب كنيسة القديس سمعان العامودي لوحة حفرت عليها نقوش تمثل شجرة الحياة. ثمَّ إنتقلَ الى حيّ الدار المدعو حي المشايخ الذي بقيَ شاهداً الى اليوم على العصر الذهبي لزعامة آل العازار. كان الاميران حيدر الشهابي ويونس المعني يختبئان، في مرحلة تاريخية، في أميون، كما أنَّ الامير بشير الشهابي كان يتوقف في أميون حين كان يقصد سوريا. والأمير حيدر الشهابي هو الذي اسندَ زعامة أميون لآل العازار. وفي هذا الحيّ، لا يزال قائماً حوالي 500 منزل عتيق شيدت اكثريتها بين العامين 1770 و1910 في طليعتها منزل آل العازار. وفي المرحلة الثانية للرحلة، إنتقل الوفدُ الى بلدة بزيزا التي تبعد 5 كيلومترات عن مدينة أميون. تشير المعطيات التاريخية والآثار الموجودة في البلدة الى أنها قديمة جداً وتعود للعصر الفينيقي. سكانها من الروم الأرثوذكس والموارنة، ويعبرُ فيها نهرٌ صغير يدعى نهر العصفور يروي أراضيها. أشهر ما في بزيزا من آثار هيكلٌ رومانيٌّ بُنيَ في القرن الأول الميلادي على أنقاض معبد فينيقي. يعتبر من أقدم المعابد الرومانية الباقية في لبنان رغم صغره. ما يميّز هذا المعبد هو أنّ مصمّميه هم عينهم مصمِّمو قلعة بعلبك التاريخية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال شكل أعمدته الضخمة والزخرفة التي تغطّي بعض جدرانه. وبعد تحوّل الإمبراطورية الرومانية الى دولةٍ مسيحية في عهد القديس قسطنطين المعادل الرسل، أصبح المعبدُ كنيسةً بإسم سيدة العواميد.
إنتقل الزوارُ بعدئذٍ الى بلدة عين عكرين القريبة من بلدة بزيزا، وهي تتميز بوجود اثرَين قديمَين يعتقد بانهما هيكلان وثنيان من الحقبة الرومانية، أحدهما أكبر من الثاني ويعتبران من أكبر المعابد الرومانية الموجودة في جبل لبنان. ويدعى المعبد الأكبر قصر الناووس. ويعتقد بأن هاذين المعبدين أقيما في العصر الروماني على أنقاض معابد فينيقية أقدم عهداً. وتتقدم كلاً من المعبدين ساحةٌ كبيرة تضمُّ حالياً أجزاء من الأعمدة القديمة التي هوَت بسبب الزلازل المتكررة التي أصابت لبنان عبر العصور. ويوجد حوالي المعبدَين أجرار ومعاصر قديمة للزيتون، ومدافن استعملت في الحقبة الوثنية وفي الحقبة المسيحية. وبعد إنتهاء هذه الجولة، توجهَ وفدُ الجمعية الثقافية الرومية الى مطعم كابري في بلدة كوسبا حيث تناولَ طعام الغداء، ثمَّ عرّج على مدينة البترون، في طريق العودة، لتناول المرطبات.