في إطارالنشاطات التي تنظمها الجمعية الثقافية الرومية لتكريم المبدعين الروم الراقدين والأحياء، أنشأت الجمعيةُ، منذ سنة 2016، لجنةَ تكريم المبدعين، ويرأسُها حالياً الدكتور إيلي موقديه، وتضمُّ إليه الدكتور رجا واكيم والدكتور منير أبو عسلي والدكتور توفيق الملحم. تسعى هذه اللجنة لجمعِ أسماء المبدعين الذين تألقوا في حياتِهم المهنية والإجتماعية والدينية وتميّزوا بإبداعاتِهم الكبيرة متجردين من المصلحة الخاصة والأنانية والفئوية. وتقترحُ اللجنةُ على الهيئة الإدارية في الجمعية مَنْ تراهم أكثرَ الناس إستحقاقاً للتكريم لتختارَ بينهم الهيئةُ إنساناً راقداً واحداً أو أكثرَ تكرِّمه في التاسع والعشرين من شهر إيار، في ذكرى شهادة المدينة المتملكة القسطنطينية روما الجديدة التي إستُبيحت في هذا اليوم من سنة 1453.
وفي سنة 2024، وقعَ إختيارُ لجنة التكريم والهيئة الإدارية على المهندس المعمار والفنان الموسيقي الكبير والأكاديمي اللامع أليكسي جبران بطرس الذي أسَّس الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في منتصفِ القرن العشرين في بيروت.
جرى الإحتفالُ بتكريمه في الأكاديمية القائمة في منطقة الدكوانة والتابعة حالياً لجامعة البلمند. أشرفَت لجنةٌ مشتركة من الجمعية الثقافية الرومية والأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة على تنظيم الإحتفال الذي تمَّ تنفيذُه في يوم السبت الموافق فيه الأول من حزيران 2024. ضمَّت هذه اللجنة كلاً من المهندس فضل الله داغر عميد الأكاديمية والبروفسور نجيب جهشان رئيس الجمعية، والمهندس روني ريشا، والسيدة لينا فاخوري، والدكتور إيلي عبد الحقّ، والدكتور إيلي مواقّديه، والمهندس غبريال أندريا، والأستاذ رولان خيرالله.
ألحِقَ هذا الإحتفال بالمؤتمر العلمي الرابع الذي جرت وقائعُه في قاعة سمير أبي اللمع في الألبا. وتضمَّن التكريم كلمةً للبروفسور نجيب جهشان، رئيس الجمعية، كانت بمثابةِ مقدمةٍ للتكريم جاء فيها: “ويزدادُ تكريمُنا لأليكسي بطرس رسوخاً عندما نستذكرُ الصعابَ التي واجهَها والمؤامرات التي حيكت لخنقِ إنجازاته وتدمير مؤسساته، فكان لها متصدياً بإيمانٍ وجرأةٍ وصلابةٍ وعنادٍ، متحلِّياً بالإيمان والمحبة والرجاء التي هي من صفات المؤمن المسيحيّ.”
ترأس جلسةَ التكريم عميد الأكاديمية المهندس المعمار فضلو داغر، وتكلَّم فيها كلٌ من المهندس سمير أبي اللمع، والإدارية السابقة في الأكاديمية السيدة كلود نحّاس، والسيدة نيكول حرفوش عضو مجلس الإدارة السابقة والتي تولّت العديد من المناصب الأكاديمية الإدارية، وعميد الأكاديمية السابق المهندس أندريه بخعازي. وكانت كلماتُهم جميعُها شهادات حياةٍ كشفَت تفاصيل سيرة المكرّم وأضاءت على الأثر الكبير الذي تركه هذا المبدع اللبناني الرومي الفذّ.
وبعد الجلسة التي حضرَها رئيس جامعة البلمند الدكتور إلياس الوراق، سلّم رئيسُ الجمعية الدكتور جهشان شهادةَ تسجيل اليكسي بطرس في السجلّ الذهبي للمبدعين الروم الراقدين لرئيس الجامعة وعميد الأكاديمية بعد أن أنشدَ الحاضرون نشيد القسطنطينية الذي تعتمدُه الجمعية كنشيدٍ رسميٍّ لها. وفي نهاية الإحتفال، ترأس قدس الأرشمندريت سيرافيم (بردويل) وقدس المتقدم في الكهنة رومانوس (جبران) صلاة التريصاجيون لراحة نفسِ الراقد أليكسي بطرس وسائر المبدعين الراقدين الواردة أسماؤهم في السجل الذهبي.
من هو أليكسي بطرس؟
أليكسي بطرس هو من عمالقة الروم في القرن العشرين. وُلدَ في بيروت في سنة 1915 من عائلةٍ روميةٍ عريقة، وأمضى حياته فيها. درس الهندسة المدنية في الجامعة اليسوعية وعملَ فيها، لكنّه كان شغوفاً بالموسيقى منذ صغرِه، فأسهم في تأسيس فرقةٍ للموسيقيين الهواة وترأسَها، فأبدعَت هذه، منذ العقد الرابع للقرن العشرين، في إقامة الحفلات الموسيقية الناجحة وتأدية كبريات الأعمال الفنية في مختلف الصروح الأكاديمية والفنية في لبنان والشرق.
وفي سنة 1943، سنة حصول لبنان على إستقلاله الناجز، أفلح أليكسي بطرس في تأسيس الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة التي حصلَت على مرسومٍ رئاسي بإعتبارِها مؤسسة لبنانية ذات منفعةٍ عامة، فكانت أوّلَ صرحٍ تعليميٍّ عالٍ ذا صفةٍ وطنية. وضمَّت هذه الأكاديمية، في البدء، ثلاث مدارس تعنى بالهندسة المعمارية والموسيقى والرسم.
وأسهم نجاح الأكاديمية الباهر في تأسيس مدارس فنيّة أخرى فيها، الى أن توسعَّت وضمّت معاهدَ الآداب والعلوم السياسية والحقوق. لكنَّ الأخيرةَ ألغيَت عندما إنتقلَت مهامها الى الجامعة اللبنانية الرسمية بفعلِ تدخُّلاتٍ مريبة.
وبعد رقاده في سنة 1979، ولم يزلْ عازباً الى حينه، كانت الأكاديمية التي أسَّسَها إحدى الكليات الجامعية الثلاثة التي كوَّنَت جامعة البلمند، ذات الشهرة اللافتة. وما زالت، الى اليوم، من أهمِّ الصروح العلمية اللبنانية المختصّة بالفنون الجميلة.
كان أليكسي بطرس عنصراً فاعلاً في إبرشية بيروت الرومية الأرثوذكسية، عضواً في مجلس وقف الكاتدرائية، نائباً لرئيس الجمعية الخيرية الأرثوذكسية، ونائباً لمجلس أمناء كلية البشارة الأرثوذكسية. يعتبرَ أليكسي بطرس إنساناً خلّاقاً ومبدعاً كبيراً في عالم الفن والهندسة، متميّزاً بإقدامٍ قلَّ نظيرُه وجراةٍ فائقةٍ في نقل أفكاره وأحلامِه الى عالم الواقع. ويعودُ له الفضلُ العظيمُ في تأسيس المعاهد الأكاديمية اللبنانية العليا، دون أي عونٍ خارجيٍّ. هو مثالُ المبدعين الروم الكبار في المشرق الذين بذلوا، بتجرّدٍ مطلقٍ ومحبةٍ عميقةٍ، ذواتَهم وجهودَهم لخدمة الإنسان والعلم والوطن.